مقالة

قبسً من نور زينب (ع)

قبسً من نور زينب (ع)

09 May |2024

إنّ الإسلام رفـع المـرأة، وجعـل لهـا تكليفـاً وشـرّفها كمـا الرجـل، إذا مـا قامـت بهــذا التكليــف إمتثــالا لأمــر الله. وجعــل أيضــا للمــرأة قــدوة تجعلهــا أمــام عينيهــا لتسـتمد منهـا القـوة والصمـود والعطـاء، فكانـت زينـب هـي وليـّة الله التـي جسـدت أعظــم قــدوة بعــد أمهــا الزهــراء سلام الله عليهــا، وحملــت مــن أعبــاء الرســالة مــا حملـت، وحولـت مظلوميتهـا إلـى انتصـارٍ يُعتـد بـه، وتعيـش بـه البشـرية علـى مـرور أزمنـة متتاليـة. تُعلّم زينـب بنـت علـي المـرأة، بـل الإنسـانية فـن وأسـلوب حسـن اسـتخدام الأشـياء حتـى لـو كانـت أسـراً واضطهـاداً وضربـاً وألمـاً، فـكل شـيء مـا زال فـي عيـن الله فهـو جميـل. إن الرؤيـة التـي قدّمتهـا زينـب سلام الله عليهـا فـي يـوم عاشـوراء ومـا تلاه هـي الرؤيــة القرآنيــة الإسلامية الصحيحــة، والمبــادئ التــي امتلكتهــا زينــب ومضــت عليهـا هـي مبـادئ الأنبيـاء والأوصيـاء والأوليـاء، ومـن يتخذهـا منصـور لا محـال، والعاقبـة للمتقيـن. واليــوم فــي خضــم الأوضــاع الراهنــة، إنّ دراســة شــخص زينــب مــن أهــم المهمــات، تحتاجــه المــرأة لتــؤدي تكليفهــا، والعالــم بحاجــة لأن يقــدم لــه قــدوة يقتــدي بهــا كزينــب، لتُعــاد صياغــة النفــوس والأرواح وإصلاحهــا، فالعالــم اليــوم يعيــش فــي متاهــة يحتــاج فيهــا لعلــم زينــب، ولإدراك زينــب، ولإدارة زينــب.

المقدّمة:
      خلـق الله الخليقـة، ووهـب البشـريّة الحيـاة وجعلهـا ترتكـز علـى عنصريـن، يكمـل بعضهمـا الآخـر، ولـو غـاب أحدهمـا لاختلّت الموازيـن، والفكـر الإسلامي والمبانـي العقائديـة الصحيحـة للدّيـن الإسلامي الحنيـف. تـرى أنّ الرجـل والمـرأة خُلِقـا فـي هـذا العالـم للتكامـل، وأنهمـا أمـام الفـروض الإلهيـة متّحـدان مـن حيـث العبوديـة والسـعي للوصـول إلـى الكمـال..
ولا يـرى الإسلام أنّ هنـاك اختلافـاً فيمـا بينهمـا مـن هـذا الجانـب مطلقـاً، بـل ولا يتبنـى أي فكـرة توحـي بـأنّ للجنـس أفضليـة، فقـال صريحـاً فـي الآيـة الشـريفة: (إنّ أَكرَمَكُم عِندَ الله أَتقاكُم)، فجعـل للمـرأة الحـق كمـا جعله للرجل فيما يخص بناء الإنسـان، والدفـاع عـن حقوقـه، وقـول كلمـة الحـق، وحمـل الرسـالة السـماوية.
      وجسّدت واقعــة كربلاء هــذا الأمــر، حيــث كانــت المــرأة ذات الــدور المؤثــر فـي الحركـة الإصلاحيـة للأمّـة مـع الرجـل، بـل المتممـة لهـا، فتحملـت الأعبـاء، وعانـت، وكابـدت لكـي تـؤدي تكليفهـا الإلهـي مـن إحيـاء العقـول والقلـوب، والأمـر بالمعـروف والنهـي عـن المنكـر، فكانـت الرائـدة فـي القيـادة النسـوية آنـذاك، ومـا زالــت هــي ســليلة بيــت النبــوة زينــب الكبــرى عليها السـلام، فقدمــت أنموذجــاً يُحتـذى بـه، متكامـل الأبعـاد، قـوي العطـاء، متّزن التصـرف، حكيـم الأداء، فتـارة تشـهد لذلـك مواقفهـا، وتـارة كلماتهـا، وتـارة حنانهـا، وتـارة أخـرى صلابتهـا، ومـا إلـى ذلـك مـن الجوانـب المنيـرة فـي شـخصيتها العظيمـة.
      وللحاجــة الملحّــة التــي تعيشــها المــرأة اليــوم، فإنّهــا تحتــاج أن تقــف وقفــة جديـّة، تتصفـح مـن خلالها حيـاة هـذه العظيمـة بدقّـة، لكـي تسـتطيع تقديـم شـيء للدّيـن دون تأثيـر الفكـر المنحرف، وبعيداً عن الإرشـادات المدسوسـة التي يرسـلها الغـرب مـن هنـا وهنـاك عبـر شـبكات وبرامـج ومؤسسـات ومـا إلـى ذلـك، فالحاجـة اليـوم لدراسـة زينـب بمواقفهـا وبعطائهـا وبشـخصها هـي أ كبـر بكثيـر مـن عـدة أمـور أخـرى لا تُسـمن ولا تُغنـي مـن جـوع؛ لأن الوقـوف عنـد زينـب يعنـي بنـاء مجتمـع صحيـح، والسـعي بجـد دون كلـل أو ملـل، ودحـر للظلـم والصبـر علـى المعانـاة.
      ومـن بـاب الوفـاء أيضـاً لهـذه العظيمـة، مـع العجـز المعتـرف بـه مـن قِبَلنـا كانـت هـذه الكلمـات الخجلـة التـي لا تقابـل زفـرة مـن زفـرات صـدر زينـب، راجيـن بهـا شـفاعتها وشـفاعة أهلهـا الكـرام.

وحدةهدف

      إنّ كل مجتمـع يحتـاج إلـى قوّتـيْ جـذب ودفع ليتوازن ويتعـادل، فكما يحتاج لوجـود الرّجـل فإنـّه يحتـاج أيضـا إلـى وجـود المـرأة، والسـير التكاملـي لكليهمـا بيّنـه القرآن الكريم بآيات واضحة ودقيقة حيث قال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [1] ، توضـح التكليـف المشـترك الـذي يجـب أن يأديانـه كليهمـا، وهـو واجـب علـى عاتـق كل منهمـا، إضافـة إلـى مهامـه الخاصة التـي يجـب أن يقـوم بتأديتهـا علـى أ كمـل وجـه أيضـا، ليصلا معـاً حيث الهـدف الـذي أقـره الله تعالـى للبشـرية، وهـو أن يكـون خليفـة الله فـي الأرض، ويصـل حيـث السـعادة الأبديـة وهـو الهـدف للديـن الـذي جعلـه الله لعبـاده، ومـن خلاله يتخـذون الطريـق الصحيـح فهـو «نحـو سـلوك فـي الحيـاة الدنيـا يتضمـن صلاح الدنيـا بمـا يوافـق الكمـال الأخـروي والحيـاة الدائمـة الحقيقيـة عنـد الله عزوجـل[2] كما يعبر عنه السيد العامة الطباطبائي .
      ومن هذا المنطلق كان اختيار الإمام الحسـين(ع) بأن يصطحب نسـاءه معه حيـث يقصـد بعـد أن بيـّن مـن خـلال كلامـه هدفـه للخـروج مـن مدينـة جـدّه العراق عندما قال: «إنى لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، و إنما خرجت لطلـب الاصلاح فـي أمـة جـدي(ص)، أريـد أن آمـر بالمعـروف وأنهـى عـن المنكـر». [3]
إنّ الإصلاح الــذي كان الإمــام الحســين(ع)  يريــد إقامتــه يحتــاج منــه إلــى عطــاء كبيـر ومـدروس بدقّـة إضافـة إلـى وجـود العناصـر الفاعلة فيـه من كل الجهـات ليحرز عليـه السلام مـن ذلـك النجـاح. وبعـض مـن هـذه العناصـر الفاعلـة هـي عبـارة عـن عـدة مـن الأشـخاص اختارهـم الإمـام الحسـين عليـه السلام بمعرفـة الإمـام، الـذي يعلـم مـا تخفيـه السـرائر ومـا تحويـه القلـوب من قـوّة إيمـان، وعلـى قلتهم تقـدم الإمام الحسـين(ع) نحـو هدفـه المنشـود.
      كان ابـن علـي يـرى الأمـور واضحـة، ويعلـم أن قيامـه يحتـاج أيضـا لإمتـداد بعـد أن يرتحل سلام الله عليه ويمضـي شـهيدا مخضبـاً بدمه، فيجب أن يجعـل الانتقالـة والمرحلـة الأخـرى لنهضتـه فـي يـد هـي أهـل لها، فكانـت زينب سلام الله عليهـا هـي تلـك اليـد التـي رعـت القيـام الحسـيني وحمتـه ودافعـت عنـه بـكل شـجاعة وإيمـان وقـوة، فهنـا لـم يسـتثنِ الإمـام الحسـين عليـه السلام مـن ذلك المـرأة، بـل اختارهـا بـأن تكـون المكمـل لنهضتـه وحاملـة العبـئ الأكبـر أيضا.
      ولـذا لـم تكـن كربلاء صـرف حادثـة وقعـت وأدّت فيهـا زينـب بنـت علـي دور الراعـي والمدافـع فحسـب، بـل هـي عنـوان يدخـل مـن خلالـه إلـى جوانـب زينـب المتعـددة، ويفصـح عـن كامـل شـخصيتها التـي تحمـل الفضائـل والمزايا الرّسـاليّة التـي ورثتهـا مـن بيـت النبـوة والوصايـة.
فلقـد كان لمواقفهـا سلام الله عليهـا ولخطاباتهـا في المرحلة التـي تلت كربلاء الأثـر الكبيـر فـي حفـظ القيـام الحسـيني، بـل وكوّنـت رمـزاً يحمـل كامـل الشـجاعة والقـوّة قدّمـه بيـت علـي بيـد الحسـين إلـى العالـم أجمـع.
      فاسـتفاق العالـم الإسلامي آنـذاك علـى صـوت زينـب الـذي خاطـب الضمائـر والأرواح التـي كانـت تغـوص فـي سـبات عميـق، ومـا زالـت الأمـم اليـوم تنهـل مـن عطائهــا علــى مختلــف الأصعــدة، فأصبــح عطــاء زينــب بعــد كل هــذه الســنين عطـاءً عالميّـاً يحـي البشـرية.
      زينـب مـن خلال وقوفهـا الـذي يحكـي كامـل الامتثـال لأمـر إمامهـا، وأيضـا أدائها لتكليفهـا علـى أتـم وجـه قدمـت مـن خلالـه رمـزاً واضحـاً للمـرأة الرسـاليّة التـي تحمل الحيـاة للقلـوب الميتـة، فتبثهـا بـكل فصاحـة وبلاغة وإيمـان وصمـود وقوة.
      ومـن أكثـر المواقـف التـي تثبـت صمودهـا وحسـن أدائهـا وعـدم ضعفهـا حتـّى للحظـة هـي تلـك الخُطَـب الّتـي ألقتهـا علـى طـوال مسـير أسـرها، وبالخصـوص في الكوفـة والشـام، حيـث وقفـت وقفـة المدافـع القـوي عـن الديـن والعقيـدة وأفسـدت الخطـط التـي رام لهـا يزيـدبـل ورسـمت موقفـا أثبتـت فيـه بأنهـا رمـزٌ فاعـلٌ  فـي الحاضـر والمسـتقبل الـذي تلاها، لأنهـا أسـهمت فـي تغييـر مسـار التأريـخ فأضافـت وعيـاً جديداً، وعمّقت الموقـف والحركـة التـي قامـت بهـا.
      ومــن هــذا المنطلــق ســتكون الوقفــة هنــا، عنــد شــيء مــن مواقفهــا وبعــض كلماتهـا التـي أطلقتهـا أمـام طاغيـة زمانهـا، علّنا نستلهم منها قِيَماً نستهدي بها فـي زمننـا الـذي يعـجّ بالظلـم والأسـى، محاولـة لإدراك شـيء ممـا قدمتـه، فالتوقـف عنـد الرمـز يعنـي مـدى قيمـة فكـره وأصحيّتـه.
والحديــث عنهــا حديــث عــن اليقيــن الــذي حملتــه، وبيــان للفكــر الــذي دافعــت عنــه، وتثبيتــا للتأثيــر الذي تركتــه واقتباسـاً مــن القــوة التــي تعاملــت بهــا.

وريثة الأنبياء

      إن أي رســالة ســماويّة يريــد الله أن يجعــل لهــا صبغــة إلهيـّـة قويــة تمتــد مــن خلالهـا حيـث الأجيـال وتسـاعد علـى الحفـاظ عليهـا لأمـد أطـول، كانـت لحظـة انطلاقتهـا الحاسـمة هـي تلـك الوقفـة للنبـي والرسـول ومواجهتـه طاغيـة زمانـه علـى شـدة طغيانـه وتجبـره وتسـلّطه، فشـهد القـرآن الكريـم لهـذه الوقفـات والمواجهـات وخلّدهـا مـن خلال الآيـات الشـريفة، وبيّن أنّ النصـر والغلبـة كانـت لرسـله وأنبيائـه حيـث أيّدهـم بتأييـده وثبّت أقدامهـم عندمـا نطقـوا بالحـق والصـدق والعـدل.
      فنـرى القـرآن يتكلـم عـن نبـي الله موسـى عليـه السلام ومواجهتـه فرعـون زمانـه، وكيــف أن الله شــدّ أزر موســى وأظهــر الحــق وأزهــق الباطــل، وتــارة نــراه يتكلــم عــن خليلـه إبراهيـم عليـه السلام ووقوفـه أمـام النمـرود، وكانـت النتيجـة أن أنجـاه الله مـن نار سجّروها لحرقه، وأيّده وقال: ﴿فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخسَرين﴾ وجعلها برداً وسلاماً ومـا إلـى ذلـك مـن نصـر مـؤزر يهبـه الله أنبيائـه بعـد أن يعلنـوا بوقفاتهـم وحدانيـة الله، والحـق الـذي يجـب أن يتبعـه البشـر، ويدعـون إلـى الصلاح والهدايـة.
      ولكـم كـرر القـرآن نتيجـة وقفـة الأنبيـاء بوجـوه العتـاة والظلمـة، وعبـر عـن ذلـك بتعابيــر مختلفــة، منهــا قولــه:  ﴿ ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَ مَنْ نَشاءُ وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ﴾.[4] ولهــذه الوقفــة الرســالية النبويــة قوانيــن وأساســيات، لهــا نتيجــة محســومة ألا وهــي: الغلبــة والنصــر والتأييــد.
      وإذا مـا أردنـا أن ننتقـل حيـث زينـب بنـت فاطمـة سلام الله عليهمـا نـرى تلـك الأساسـيات والمبـادئ قـد طُبقـت مـن قبـل بنـت أميـر المؤمنيـن بدقـة متناهيـة؛ فقـد حـذت حـذو الأنبيـاء، وكانـت قـدوة ورمـزاً وضّـاءً تفتخـر بـه النسـاء وتسـمو بـه، بـل تنحنـي لـه الرجـال امتنانـاً وتطوعـاً.
ومن أبرز هذه الأساسيات ما يلي:

قوة الموقف والمنطق:
      يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[5] إن العـزّة والقـوة التـي جعلهـا الله لأنبيائه ولأوليائه بالتبع هي تلك التي جعلها لزينب بنـت علـي حيـن أ كملـت الحركـة الإصلاحيـة التـي ابتدأهـا الإمـام الحسـين(ع)، فكانـت الصـوت الهـادر الـذي واجه الطاغيـة دون أي خوف يذكر، فسـبك الكلمات واختيـار الألفـاظ التـي تكلمـت بهـا سلام الله عليهـا، والثبـات فـي الموقـف وعـدم الضعـف والإنكسـار لا ينقـل أي حالـة مـن الضعـف أو الهـوان أو الـذل الـذي عـادة مـا يكـون للأسـير الفاقـد. امـرأة أسـيرة مفجوعـة قـد أُثكلـت بثمانيـة عشـر رجلاً مـن أهـل بيتهـا مـا لهـم علـى وجـه الأرض مـن نظيـر، وقـد سـيقت علـى محامـلٍ بلا وطـاء ولا غطـاء، وضربـت وأهينـت وأتعبـت وأرهقـت، وأوذيـت بإبـداء وجههـا وهـي أعظـم المخـدرات.. تدخـل علـى السـلطان القاهـر، والعـدو السـاخر، والطاغـوت المنتصـر، والسـفاك المجـرم مقيـدة هـي وابن أخيها العليل، وأختها، وسـائر الأسـرى المنهوكين بالرحلـة المرهقـة[6]. فتخطـب وتتكلـم بشـجاعة وتتحـدى، تتكلـم غيـر مكترثة بهيبة ملـك يزيـد ولا معتنيـة بسـلطانه، تسـتهزء بانتصـاره الوهمـي المزعـوم، وتَُسـمِعه ألذع الكلمـات مسـتخفة بـكل مـا يملـك.
هـذا التحـدي والشـجاعة التـي امتلكتهـا زينـب أمـام يزيـد هـي صـورة واقعيـة لشـجاعة الأنبيـاء التـي شـهد لهـا القـرآن، وكانـت بتأييـد مـن الله تعالـى، وهـي فـي الواقـع قـوة وعـزة إلهيـة تبيـن الإيمـان الراسـخ الـذي امتلكتـه زينـب سلام الله عليهـا بمـا تقـوم بـه، ومـا تريـد إيصالـه، وأيضـا اليقيـن الكبيـر بـأن كل مـا تقدمـه هـو ضمـن مشـروع إلهـي وعـده مضمـون بالكامـل.
      وبتلــك الشــجاعة والقــوّة حمــت الرســالة، ولولاهــا لفقــد التاريــخ أزهــى وأروع صفحاتـه، وأكثرهـا إيثـاراً وعطـاءً، فكانـت رباطـة جأشـها بوجـه الظلـم بدايـة لنهايـة الحكـم الأمـوي، هـدّت مـن كيانـه بمـا أعقـب انهيـار بنيانـه.
لقد فهمت زينب سلام الله عليها معنى كلام الحسين عليه السلام في دعائه يوم عرفة حين كان يقول: (يا مـن خصّ نفسه بالسمـو والرفعـة، فأوليائـه بعـزّه يعتزون) [7] فاستلهمت الشجاعة من هذه المفاهيم العميقة التي أصلها الحسين(ع) وتركها إرثاً للبشرية لكي تسمو بها أنفسهم، ويستشعرون العزّة التي تكون لله ويعتزون بها، فيكونون أقوياء، يواجهون بها كل ما يقف في وجه ديمومة الرسالة السماويّة. فلقد نقل التأريخ هذه القوّة التي تعاملت بها وهي القوّة المستمدّة من الله سبحانه تعالى من خلال الإيمان فيقول حذلم بن ستير- مبيّناً موقفها الذي كان مزيجاً رائعاً يتناسب مع طبيعة المرأة، وفي نفس الوقت لا يمنعها من أداء تكليفها-: (لمْ أَرَ خَفِرَةً قَطُّ أَنْطَقَ مِنْهَا، كَأَنَّهَا تُفْرِغُ‏ عَنْ‏ لِسَانِ‏ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ‏ (عليه السلام)، وَ قَدْ أَوْمَأَتْ إِلَى النَّاسِ أَنِ اسْكُتُوا فَارْتَدَّتِ الْأَنْفَاسُ وَ سَكَتَتِ الْأَصْوَات‌).[8]

      لقد عبّر حذلم بتعبير دقيق، وصف به كيان وشخص زينب الأنثوي الممزوج بقوتها القاهرة التي سيطرت على كل من كان يتواجد في تلك الحادثة، باختلاف المكان والزمان، وتطرّق إلى جوانب متعددة منها ما استهل به كلامه حيث قال: (لم أرَ خفِرة)، أصل الكلمة في اللّغة  «خفر» وقد أتت على عدة معان منها:المرأة شديدة الحياء[9] ، والمتعبة[10]، ويقال: خفير القوم أي مجيرهم [11] ولابدّ من الوقوف عند كل معنى من المعاني:

أولها: وأشهرها "شدّة الحياء"
      لـو افترضنـا أن حذلـم أراد بقولـه هـذا المعنـى والـذي هـو ممـا لا شـك فيـه، فهــو معنــى يتبــادر للذهــن كلمــا جــيء بذكــر بنــت أميــر المؤمنيــن(ع)، فهــي لا شــك ســيّدة الحيــاء (ع) فهــذا يعنــي أمــور: أنّ الســمة الغالبــة علــى شــخصيّة زينـب بنـت علـي هـو شـدّة الحيـاء، رغـم أنّهـا كانـت قـد ناهـزت الخمسـين ونيـف مـن العمـر.
       إنّ شــدّة الحيــاء لــم يتنــاف عنــد زينــب (ع) مــع قــول الحــق، ونقــل الرســالة السـماوية إلـى النّـاس، والوقـوف بوجـه الظالـم فهـو نـوع مـن القـوّة الإيمانيّـة، وبذلـك بيّنـت سلام الله عليهـا كيـف يمكـن للحيـاء أن يتجانـس مـع الحـق والدفـاع عنـه، وأنـّه لا يعنـي السـكوت والخنـوع والصمـت.
      إنّ شـدّة الحيـاء لا يعنـي الانكسـار أو الضعـف كمـا يحـاول البعـض أن يصوّره، بــل هــو معنــى يكمــن فــي داخلــه عــدم الانكســار، وقــد أثبتــت سلام الله عليهــا أنّــه جانــب مــن جوانــب الشــخصية القويـّـة الّتــي تحتاجهــا المــرأة لتكــون فاعلــة فــي المجتمـع، ممهّـدة لمولاهـا.

ثانيها: (المتعبة)
      وإن كان المـراد بالقـول (المتعبـة) بافتـراض أنّـه تكلـّم عنهـا فـي وقت قـد أُنهِكت قواهــا، بعــد قتــل أهلهــا وســبيها وضربهــا، فهــو دلالــة واضحــة علــى أنـّـه رغــم شــدّة التعـب والألـم والأسـر والوحـدة وثقـل المسـؤولية، إلّا أنّهـا دافعـت وبيّنـت ووضّحـت وجاهـدت، ولـم يثنِهـا التعـب عـن أداء تكليفهـا.
فضلا أنّ هـذا المعنـى يبيـّن طبيعـة مصابهـا سلام الله عليهـا فهـي الثكلـى، الفاقــدة، الأســيرة المضروبــة بالســياط، المحاميــة والمتفانيــة فــي ذلــك مــن أجــل إمـام زمانهـا. مـع كل ذلـك بقيـت صامـدة تتكلـم بلسـان فصيـح يشـبه لسـان علـي بـن أبـي طالـب (ع)، البطـل، الشـجاع، المقـدام، الكـرّار فـي الحـروب، المهيـن للظلمة، ولم تتأثّـر شـخصيتها بتعـب و إنهـاك ولهـف نفسـي أي تعـب!
بــل بقيــت متوازنــة طــوال المســير، وهــو درسٌ عظيــم فــي أن تســتلهمه المــرأة لتُجابــه بــه كل متاعــب هــذه الحيــاة وأن لا تتحجــج بقســوة الظــروف فتســتهين بمبادئهــا وأهدافهــا وحجابهــا وســترها.

ثالثها: (مجيرة القوم)
      ولـو افترضنـا أنّ الواصـف أراد بقولـه المعنـى الثالـث فسـيكون بيـان عـن عظـم المسـؤوليّة التـي كانـت تتحمّلهـا زينـب سلام الله عليهـا، وبشـاعة مـا حصـل لهـا فــي كربـلاء، حيــث بعــد ذاك العــز الــذي كانــت فيــه، فقــدت رجالاتهــا وأعمــدة أسـرتها، فأصبحـت فـي ظهيـرة مؤلمـة هـي المجيـر لأرامـل وثكالـى وأيتـام، والحامية لولــيّ مــن كيــد الأعــداء، فهــي مهمـّة جبّــارة، تحتــاج لوعــي وصبــر وإحــكام فــي التصرفـات، فكيـف لامـرأة مفجوعـة أن تتولى هذا المنصب الحسّـاس والخطير؟..
      ومـع مـا تعرضـت لـه سلام الله عليهـا يبـدو أنّ كل المعانـي تصـدق عليهـا فـي آن واحـد، رغـم تقـدّم معنـى علـى آخـر، فهـي المـرأة ذات الحيـاء الشـديد والمتعبـة، والمحاميــة للرســالة والولايــة والنهضــة الحســينيّة، التــي لــم يثنهــا أي حــال مــن الأحــوال التــي مــرّت بهــا ولــم يكــن عائقــاً لهــا دون فضــح بشــاعة مــا حصــل فــي كربلاء، وبشـاعة مـا ارتكبـه أعـداء الله و إزاحـة السـتار عـن كل جرائمهـم، فضلاً عـن توبيخهــم وتصغيرهــم وتقريعهــم بوقفــة قويــة وبلغة بليغة.
      وكأن حذلـم يرسـم صـورة مـن صـور التأثيـر القـوي الـذي كانـت تمتلكـه زينـب بنـت علـي علـى الرغـم مـن الحالـة التـي تعيشـها والوضـع المتـردي والسـيئ الـذي كانـت فيـه، فلا ترمـز هـذه الشـهادة لزينـب سلام الله عليهـا إلا للقوّة ورباطـة الجأش، خصوصـاً أنّهـا لـم تكـُن تخرج للناس من قبل، فهي المخدّرة، المصانة، التي يتسـابق آل هاشـم علـى خدمتهـا، فمـن أيـن لها كل هذا التأثير الـذي تعاملت به مع الناس؟ فتمتلــك بإيماءة وحركــة بســيطة مــن يدهــا الشــريفة قــدرة إســكات كل الحاضرين حيث قال واصفاً الحال: (قَدْ أَوْمَأَتْ إِلَى النَّاسِ أَنِ اسْكُتُوا فَارْتَدَّتِ الْأَنْفَاسُ وَ سَكَتَتِ الْأَصْوَات) لتفصح هي عن ما تحمل بلسانٍ فصيح صــادق ينطــق بالحــق، وبوقفــة تحمــل كامــل الصمــود والثبــات.
      لكنّهــا حصلــت علــى كل ذلــك التأثيــر مــن خلال:التأييــد والتســديد الإلهــي: ولا شـك أن شـيء مـن هـذا التأييـد والتسـديد الإلهـي هـو تمكيـن زينـب (ع) مـن قلوب وعقـول البشـر مـن خـلال ولايـة تكوينيـة خُصّـت بهـا دون غيرهـا مـن النسـاء.
الإيمان الرّاسخ بأحقيّة القضيّة التي كانت تدافع من أجلها.
ومـن هـذا الموقـف بحـد ذاته يُسـتنتج عنصـر القـوّة الذي امتلكتـه والـذي امتزج ونمـا عـن إيمـان راسـخ، وهـي رسـالة لكل امرأة بل لكل إنسـان يريد إقامـة الحق الإلهي فـي العالـم علـى مـرور الأزمنـة وكأنهـا سلام الله عليهـا تُعطـي شـفرات ذكيـّة فعّالـة مـن خلالهـا يمكـن التعامـل مـع المواقـف مهمـا كانـت شـديدة ومؤلمـة، بـل وتربـي النفس المؤمنـة علـى أن تصنـع مـن الألـم والظلـم الـذي تتعـرض لـه آفاقـاً مـن نـور تضـيء بهـا العالـم والأرواح وتكتسـب قـوّة إضافيّـة تصـل مـن خلالهـا حيـث الحقيقة.

       إضافــة إلــى حالــة الشــجاعة والتأثيــر الــذي امتلكتــه مــن خلال تصرفاتهــا وحركاتهــا، كانــت تتخلّــل حتــى كلماتهــا الاحتجاجيـّـة التــي قالتهــا فــي خطبتهــا وأســلوبها المتقــن المشــحون بالبلاغــة، فلــم يجــد حذلــم مناصــاً إلا أن يشــبهها بســيّد فصحــاء العــرب والعالــم بعــد رســول الله والدهــا أميــر المؤمنيــن عليــه السلام فقــال: (كَأَنَّهَا تُفْرِغُ‏ عَنْ‏ لِسَانِ‏ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ) وهنـا هـو المشـهد الآخـر الـذي حار فيـه الجميع، حين نطقـت زينب واختـارت أدق الألفـاظ وأقسـاها لتصـوّر للنـاس مـا حصـل وتحاكـي ضمائرهـم بعـد أن سـيطرت عليهـا بقـوّة شـخصيّتها العلويـة.

إنذار وتوعية:
      ولــم يكــن كلامهــا إلا مطابقــاً لمقتضــى الحــال تمامــاً، فصيحــاً غيــر معقـّـد الكلمــات لكــي يســتوعبه الجميــع، لــم تُجامــل ولــم تُبالــغ بــل نطقــت بحقائــق إلهيّة صادقة،  وهـو نفـس الحـال الـذي كان يتّخـذه الأنبيـاء مـع أممهم ليوصلوا لهم رسـالة السـماء علـى أتـم وجـه لتكـون سـببا فـي هدايتهـم، وأيضـا إنـذاراً إذا مـا خالفـوا قـول السـماء قائلـة: "فَمَهلاً مَهلاً لَا تَطِش جَهلاً أنَسِيتَ قَولَ الله عزّ وجَلّ: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾"[12] إنـّـه أســلوب المتيقــن ممــا يفصــح عنــه، المعتقــد اعتقــاداً تامّــاً بمـا يقـول وكأنـه يـرى النتيجـة رأي العيـن، بـأنّ مـن يطغـى ويفسـد فـي الأرض لـن يأمـن مكـر الله وسـيُردّ إلـى أسـفل سـافلين. ثم إن اسـتنادها للآيـات تحتـج بـه علـى كل مـن كان يسـتمع لهـا لتشـد انتباهـم إلـى أنهـا ليسـت كمـا نُقـل لهـم مـن كونهـا سـبيّة وخارجيـّة، بـل هـي سـليلة الوحـي والرسـالة وفـي بيوتهـم تنـزّل الوحـي وتُلِيَـت الآيـات، فهـا هـي تختـار وتفسـر وتبيّـن إمّـا صراحـة وإمّـا اشـارة. وأيضاً قولهـا سلام الله عليهـا: (ولتود يمينك كما زعمت شلت بك عن مرفقها وجُذّت، وأحببت أمك لم تحملك وإياك لم يلد، أو حين تصير إلى سخط الله ومخاصمك رسول الله (ص)[13]. مخبـرة إيـّاه عـن غفلتـه التـي يعيشـها ونزوتـه التـي يتيـه فيهـا، مفصحـة عـن الصـورة الحقيقيـة لعملـه وأن مافعلـه سـتذهب لذتـه وتبقـى تبعاتـه، يُخلّـد مـن خلالهـا فـي نـار جهنـم، وسـيبوء بسـخط مـن الله.

      لعمـري أيّ امـرأة هـذه التـي تخاطـب مـن لـم يـرعَ حرمـة لإمـام زمانـه واسـتباحها، إلّا أن تكـون علـى درجـة مـن القـوّة والصمـود مـع علمها بخطـر ماتقـوم بـه، لكنّهـا تقـوم بما يُمليـه عليها الموقـف ومايجـب أن تتخذه مـن قـرارات حاسـمة فتهيـن وتحـذر وتقلـّل مـن الطاغـي الـذي تـراه بعيـن الأوليـاء أن لا قـوّة لـه ولا قـدرة، لانـه مخـذول.

إنباءٌ بالغيب
      ربيبــة بيــت الوحــي، وســليلة الأنبيــاء، تتكلّــم تمامــاً كمــا يتكلـّـم الأنبيــاء وكمــا ذكرهــم القــرآن بأنّهــم أُنبـِـؤوا الطُغــاة بمــا ســيؤول إليــه مآلهــم، فتقــول: "كد كیدك ، و اجهد جهدك فوالله الذی شرّفنا بالوحی و الكتاب ، و النبوّة و الانتخاب ، لاتدرك أمدَنا ، و لاتبلغ غایتنا ، و لاتمحو ذكرنا ، و لا یرحض عنك عارها ، وهل رأیك إلا فند، و أیامك إلا عدد، و جمعك إلا بدد[14] "تشـرح لـه حالـه، وتُعطيـه نتيجـة فعلتـه وجريمتـه، بـل وتبيـّن النصـر الـذي جعلـه الله لهـم بـكل عـزّة نفـس وثقـة وشـموخ، وهـذا يجعـل الطاغيـة يشـعر بـأنّ عرشـه قـد هُدّ، وحكومتـه قـد آلـت إلـى الـزوال، وأنّه لامنفـذ لـه ولاتوبـة ولاقبـول لفعلـه، خصوصـاً أنّ المتكلم امرأة. في واقع الحال يجب أن تكون ضعيفة مسـتكينة منصاعة لما يريده الظّالـم التـي هـي أمامـه، لكـنّ زينـب علـى عكـس كل هذا، أبـت إلّا الشـموخ وأثبتت هيبتهـا، وزعزعـت كل حكومـة بني أميّة. بل وتتكلم بكامـل الرّضا واليقين والثبات، تتكلـم بلسـانٍ ملـؤه المعرفـة والعلـم، فهـي الّتـي قـال بحقّهـا الإمـام المعصـوم الـذي دافعت عنه وحمته لأنها تعلم انه إمام زمانها: (وأنتِ بحمْدِ اللّه عالِمةٌ غَيْر مُعَلّمَة)[15]
      ومـن هـذا العلـم الـذي أشـاد لهـا بـه زيـن العبـّاد عليـه السلام، كانـت تتنبّـأ بالحقائـق وتوضـح ماسـيحصل فـي المسـتقبل. «والله لـن تمحو ذكرنـا» يعنـي أنّ الحسـين هـو المنــار للأحــرار علــى مــرّ الأزمنــة، والله لــن تمحــو ذكرنــا يعنــي أنّ الســنين تمضــي والحسـين وزينـب همـا المنتصـران علـى الظلـم. «ولا تـدرك أمدنـا» يعنـي أنّ رغم كل المنع تتجدّد السنين وتزحف الآلاف بل الملايين نحو كربلاء، تحت مرأى عالمي و إعلام يضجّ بالسـر الذي يجعل هذه الملايين تهفوا نحو الحسـين. «لاتبلغ غايتنا» يعنــي أنّ اللّه معنــا وأنــتِ معــكِ كل أهــل الشــرك والضلال وقــد وعــد الله بخذلهــم ونفيهـم ونسـفهم عـن بكـرة أبيهـم وأنّ الأرض يرثهـا عبـاد الله الصالحـون [16]، وأنّ آل محمـد إمتـداد إلـى آخـر الدّهـر ولهـم الحُكـم وتحـت أيديهـم كل الخيـر والرحمـة. ولقـد جـاء فـي كامـل الزيـارات صـورة أخـرى مـن أنبـاء الغيـب التـي قالتهـا زينـب الحـوراء سلام الله عليهـا مواسـيةً إمـام زمانهـا قائلـة: (ينصبون لهذا الطّفّ عَلَماً لِقَبر أبيك سيّد الشُّهداء لا يدرس أثره ولا يعفو رَسمُه على مرورِ اللّيالي والأيّام ، وليجتهدنَّ أئمّة الكفر وأشياع الضّلالة في مَحْوِه وتطمِيسه فلايزداد أثره إلاّ ظهوراً وأمره الاّ عُلوّاً)[17] وهنــا وعــدت وعديــن: وعــدٌ عــن أعدائهــا ووعــدٌ عــن أوليائهـا، الوعـدُ الـذي ذكرتـه عـن أعدائهـا أخبـرت عـن مغيّـب يأتـي فـي مسـتقبل الأيــام، قالــت: وليجتهــدن أئمــة الكفــر وأشــياع الضلالــة فــي محــوه وتطميســه، وهــذا أمــرٌ غيــر طبيعــي، لأنّ الإنســان إذا قتــل ينتهــي الصــراع معــه، لكــنّ اليــوم تُقــام الزيــارة الأربعينيـّـة وعلــى بُعــد عشــرات الكيلــو متــرات هنــاك أنــاس يريــدون أن يهدِمــوا قبـّـة الإمــام الحســين مــن داعــش، ألــم تكــن زينــب صادقــه فــي ذلــك؟
      وهـذا الأمـر ليـس جديـداً، مـروراً بالمتـوكّل إلـى صـدّام إلـى المجرميـن عبـر التاريـخ، فعداؤهــم دائمــاً مــع الحســين(ع)، ألــم تكــن زينــب تخبــر عــن المغيّبــات كمــا أخبــر القــرآن عندمــا قــال غُلبــت الروم؟ أمّا الوعــد الــذي وعدتــه لأوليائهــا عندمــا قالــت لايــزداد إلا علــوّاً ، هــذا الأمــر يُلمــس فــي كل ســنه، فقبــل خمســين ســنه كان الذيــن يمشــون فــي الطريــق إلــى كربلاء مئــات أو آلاف قليلــة، أمــا الآن فملاييــن مــن النــاس يتحركــون نحــو الحســين، والعالــم كلــه ينظــر إلــى هــذه المســيرة، أليــس هــذا الإخبــار مــن امــرأة مســبيّة أمامهــا جثــة مقطعــة الأعضــاء تخبــر عــن المســتقبل بهــذه الثقــة؟ أليــس هــذا إخبــار عــن المغيبــات؟[18]
      بنـت العلـم، وربيبـة الوحي، الّتـي جمعـت كل شـيء ووضعته فـي معادلة صحيحة فأتقنــت الصّنــع، وأتقنــت الأداء، فــدان لهــا العالــم أجمــع للعطاءالــذي قدمتــه، وللتفانـي الـذي كانـت عليـه مـن أجـل إحيـاء الشـريعة و إصلاح الأمّـة، فلـم تـدع الحســين ولا علــي بــن الحســين يتحملان عبـأ الوصايــة والإمامــة بمفردهمــا بــل كانـت اليـد التـي تحامـي وتسـاعد وتعطـي وتعـج إيثـاراً.

لمحات أخرى من شخصيّتها (ع) المظلومة القدوة
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾[19]
هكـذا هـو القـرآن الكريـم يبيـّن أنّ الله تعالـى يضـع لـكل فئـة قـدوة يقتـدون بهـا وهاديـاً لهـم مـن الضـلال ليتـم الحجـّة مـن خلالهـا علـى الخلـق ولئلّا يعترضـون يوم القيامـة علـى عـدم وجـود مـن يقتـدون بـه، كمـا تبيّن الآية الشـريفة حيـن تقـول: ﴿لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَیْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آیَاتِکَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾. [20]
      فكانــت زينــب الحــوراء سلام الله عليهــا تلــك القــدوة الكاملــة متعــدّدة الأبعــاد، التــي انهالــت عليهــا البلاءات مــن كل حــدب وصــوب، فلــم يُذكــر فــي التأريـخ أنّ امـرأة تحمّلـت كمـا تحمّلـت زينـب سلام الله عليهـا. جعلهـا الله حجّـة علــى النســاء أجمــع، وقــدوة يجــدر بالمــرأة ان تقتــدي بهــا، فزينــب عليهــا السلام تســدّ كل الفراغــات التــي يمكــن أن تحتاجهــا المــرأة الصالحــة المصلِحــة التــي تربــّي الأجيــال لتوصلهــا حيــث الرقــي والكمــال، وتغيـّـر مــن طابــع المجتمــع، بــل قــدوة للمــرأة التــي تعيــش فــي زمــن يملــؤه الظلــم والإســتبداد والقتــل والإرهــاب وتجعلهــا تنتقــل مــن امــرأة مهضومــة إلــى امــرأة تغيّــر مســار التاريــخ وتبنــي العقــول والفكر القويــم (فلقــد إنطلقــت عليهــا السلام من مظلوميتهــا فانتصــرت) [21] ولابـدّ للمـرأة أن تتعلّـم مـن الحـوراء زينـب كيـف تتعامـل مـع مظلوميتهـا ولا ترضـخ لمحـاولات الترويـع والإذلال والتقليـل والتنكيـل والتهميـش فـي كل المجـالات.

العالمة المواسية:
      ومازلنا في إطار كلمات زينب سلام الله عليها والغوص في شخصيّتها العظيمة التـي تهـب الـروح الإنسـانية روحـاً إيمانيّـة وتضـخ فيهـا الإبـاء والتعقّـل والحكمـة. إذا ما تســلّحت المــرأة بسلاح العلــم والمعرفــة فإنّهــا ســتدير الأمــور بحنكــة وسـتخرج منهـا كزينـب منتصـرة مرفوعـة الـرّأس، محقّقـة للهـدف الإلهـي، الـذي أُشــير إليــه فــي بدايــة البحــث أنّــه الســير نحــو الكمــال الــذي أراده الله لعبــاده.
      ومازلنـا أيضـاً نقـرأ زينـب بعيـن زيـن العابديـن ونبحـث عنهـا مـن خلال شـهادة إمام زمانهـا، وهـو يبيـّن أنّ الأمـر فـي يـوم عاشـوراء عندمـا عظـم واشـتدّ عليه كادت نفسـه الزكيـّـة أن تخــرج، وهنــا تداركــت زينــب بنــت علــي عقيلــة الهاشــميين الموقــف، فأخـذت تواسـيه بتلـك الكلمـات التـي تحمـل فـي طياتهـا كل الحنـان والمواسـاة قائلة: (مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأبي وإخوتي). تنطـق بهـا زينـب وهـي كونها امرأة، وحسـب الطبيعة أحوج لهذه المواسـاة، لكنّها من أجـل الحفـاظ علـى الإمـام وحمايتـه تبادله هـذه الكلمـات الصادقـة والتي يتخللها ألــم مــع لطــف ومحبــة فتغــدق عليــه وهــي فــي موقــف تنهــد منــه الجبــال وتخــرّ.
      لــم تكــن زينــب تســتطيع أن تتعامــل بهــذه الطريقــة لــولا المؤهلات التــي كانــت تمتلكهـا، ومـن أبرزهـا العلم واليقين والإيمان والنفس المطمئنـة الراضية بقضاء الله العارفـة تمـام المعرفـة بـأن مامضـى هـو بعيـن الله وما هـو آت يحتـاج اسـتعداداً كبيراً. فالأمّة كل الأمّة في تلك اللحظات مرهونة بصبر زينب وحسن تدبيرها وتصرفها.
5

2 52الخاتمة
      إنّ مبـادئ زينـب مختلفـة تمامـاً عـن ما يـروّج اليـوم بيـن النسـاء مـن حـالات الذوبان الخاطــئ، مبرريــن بــأنّ هــذا هــو واجــب المــرأة وهــي متجــردة مــن أي تكليـف، ناهيـك عـن اسـتخدامها أبشـع الاسـتخدامات فـي مجـالات شـتّى مـن ترويــج خاطــئ وتســويق ومــا إلــى ذلــك.
      زينـب مـرة أخـرى تثبـت كأمّهـا فاطمـة بأنّهـا الحامـل للثقـل الرّسـالي، المدافـع عنـه، المواسـي لـه، والصـوت الهـادر بالحـق الناطق بالصـدق، الفاضح لأعـداء الله.
      حيـن يقـف العالـم بيـن يـدي زينـب، لايسـعه إلا أن يطاطـأ الـرّأس وينحنـي أمامهـا، فما عسـاه يقـول فـي امـرأة لـم تهـن ولـم تنكسـر للحظـة، مـاذا يقـول فـي امـرأة عرفـت الله وتوكلـت عليـه وجعلتـه حسـبها فـي جميـع أمورهـا فأعطاهـا الله العـزّة والكرامـة والنصر.
      فمازالــت الإنســانيّة تســتذكر بطولاتهــا، ومواقفهــا، لتســتلهم دروســاً وعبــراً لترتقـي، ومازالـت الحـروف تُخـط لأجـل زينـب، والدّمـاء تسـيل للدفـاع عـن زينـب، اسـتدعى مقامهـا القدسـي أن يجعـل الرجـال تقـف فـي سـوح القتـال، دفاعـاً عنهـا، لئلّا تصـل نسـمة أذى لمرقدهـا الشـريف. فليس كل امـرأة يمكنهـا أن تحظـى بهـذه القدسـية والمكانـة والإهتمـام.
      زينـب طـوت مراحـل كبيـرة وحـوت فـي قلبهـا العلـوي كل العالـم، فألـف سلام علـى زينـب الطهـر والنقـاء وألـف سلام على زينب الجهاد والإباء.

 

 

[1] التوبة/71

[2] الطباطبائي،محمد حسين،الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، قم، الخامس 1417 هـ، ج2، ص130.

[3] المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، دار احياء التراث العربي، بيروت الثانية، 403هـ، ج44، ص329.

[4] الأنبياء/ 9

[5] المجادلة/ 21.

[6] المدرسي، محمدتقي، الصديقة زينب شقيقة الحسين، منشورات البقيع الأولى، 1416، ص74.

[7] ابن طاووس، علي بن موسى، اقبال الأعمال دار الكتب الإسلامية، طهران 1409 هـ الثانية، ج1، ص340.

[8] المفيد، محمد بن محمد، الامالي، تحقيق: استاد ولي، غفاري علي أكبر، مؤتمر الشيخ المفيد، قم، 1413هـ الاولى، ص 320.

[9] البدري، عادل عبدالرحمن، نزهة النظر في غريب النهج والأثر، ط الأولى، 1421 هـ، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم، إيران، ص 199.

[10] المقري، الفيومي، أمد بن محمد، المصباح المنير. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ج1، ص175.

[11] الفراهيدي، خليل بن أحمد، كتاب العين، منشورات الهجرة، 1410هـ، الثانية، قم، ج4، ص253.

[12] آل عمران/ 178

[13] الطبرسي، احمد بن علي، الاحتجاج على أهل اللجاج، تحقيق: محمد باقر الخرسان، نشر المرتضى، مشهد، 1403هـ الأولى، ج2، ص309.

[14] الطبرسي، احمد بن علي الاحتجاج على أهل اللجاج، تحقيق: محمدباقر الخرسان، نشر المرتضى، مشهد 1403هـ الأولى، ج2، ص310.

[15] ن. م ج2، ص 305

[16] إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ((الأعراف/128))، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ((القصص/5))

[17] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات، تحقيق: الأميني عبدالحسين ىار المرتضوية، النجف الأشرف، 1397هـ الأولى، ص 262.

[18] مقتبس من محاضرة لسماحة السيد حسين الحكيم القيت في يوم 14 صفر سنة 1437 مقتبسة بتصرف بسيط.

[19] القصص/ 59.

[20] القصص/ 47.

[21] مقتبس من محاضرة لسماحة السيدحسين الحكيم القيت في يوم 14صفر1437، مقتبسة بتصرف بسيط.

التعليقات